٠١ أبريل ٢٠٠٨

خطاب الي الله

خعندما تغيب الانسانية وتتوحش القلوب وتموت الضمائر لا تجد هذه المسكينة بفطرتها الساذجة الا ان تكتب خطاب الي الله
خطاب الي الله
للكاتب الدكتور يوسف عز الدين عيسي
لا تعرف من الذى سماها "زينب" لأنها لا تذكر لها أبا ولا أما ولا أقارب ولا صحاب. ولا تعلم كم مر عليها من الأعوام فى هذا الوجود، ولو تذكرت لأدركت أنها بعد أيام ستتم سبع سنوات.وكلما خلت إلى نفسها أو سارت فى الطريق، تذكرت أياما وأحداثا وعند ذلك لا يسعها ألا أن تبكى، عن غير فهم، وعن غير وعى.إنها تذكر مثلا، أنها كانت فى إحدى ليالى الشتاء عند باب ضريح السيدة زينب، كعادتها، شبه عارية إلا من غلالة رقيقة محت الأيام لونها، لا تذكر كيف حصلت عليها لأن ذلك كان منذ زمن لا تعيه ذاكرتها وكبرت ولم تكبر معها الغلالة فبرزت منها ساقان نحيلتان كساقى غزالة تحملان جسدا ضامرا ووجها مصفرا.وأقبل رجل بدين يشق الطريق فأسرعت إليه تطلب مليما تضيفه إلى المليمات الثلاثة التى جمعتها لتشترى شيئا تأكله، فنهرها الرجل. حاولت محاولة ثانية مع سيدة فلم تعرها السيدة التفاتا ومضت فى سبيلها.ولما أضنها التعب فكرت فى الجلوس فى مكانها الذى اعتادت الجلوس فيه جنب الضريح، ولن يضيرها أن تبيت ليلتها على الطوى، فهى لم تعتد تناول الطعام فى فترات منتظمة، بل يتوقف ذلك دائما على مدى توفيقها فى الحصول على ثمن الغذاء.وفى طريقها إلى مكانها المعتاد أبصرت سيدة أخرى فمدت إليها يدها تطلب إحسانا، فألقت عليها تلك السيدة نظرة فاحصة وسألتها:- ألك أهل تعيشين معهم؟- لا، لا أعرف لى أبا ولا أما.- ولماذا تتسولين؟- لأجمع ما أقتات به.- ولماذا لا تعملين فى أحد البيوت؟- لا أعرف طريقا إلى بيت أعمل فيه، ولم يطلب منى أحد أن أفعل ذلك.- وإذا طلبت منك أن تصحبينى إلى بيتى لتعملى به مقابل إطعامك هل تقبلين؟أشرق وجه زينب وأطل السرور من عينيها وقالت:- نعم، أقبل.سارت زينب مع السيدة من شارع إلى شارع حتى وصلت إلى ذلك المنزل. إنه شقة فى عمارة فاخرة كبيرة. صعدا بالمصعد ودخلا تلك الشقة. قالت السيدة:- ها هو ذا منزلنا، وعليك أن تبكرى فى الاستيقاظ صباحا لتنظيفه قبل أن نصحو من نومنا.عند العشاء أعطتها سيدتها كسرة من الخبز فالتقطتها وجلست بمفردها فى المطبخ تأكلها. سألت زينب سيدتها:- أين أنام؟- هنا فى المطبخ.وهى تذكر أيضا أنها عندما حان موعد النوم، تكورت فى أحد أركان المطبخ ونامت بلا غطاء، وفى الصباح الباكر استيقظت وأتمت تنظيف الأرض والزجاج قبل أن يستيقظ أهل المنزل كما أمرتها سيدتها. عندما صحت سيدتها من نومها أجرت عملية تفتيش وعنفت زينب لأنها أهملت تنظيف ما تحت الكراسى، ولم تحسن تنظيف الزجاج، فاستأنفت زينب العمل حتى تم للسيدة ما أرادت.ذات يوم أرسلتها لشراء بعض الجبن والزيتون من عبد القادر البقال ولما عادت فحصت سيدتها الأشياء، ثم نظرت إلى زينب نظرة قاسية وقالت:- الزيتون أقل مما اعتدنا شراءه بهذا الثمن. هل أكلتِ منه شيئا فى الطريق؟نفت زينب نفيا باتا أنها أكلت منه شيئا، ولكن سيدتها لم تصدقها، فجذبتها من يدها وجردتها من غلالتها وهوت على جسدها بعصا غليظة ثم ألقت بها فى ركن الغرفة.لماذا تضربنى؟ إن يدى لم تمتد إلى هذا الزيتون ولا إلى أى شئ أخر فذلك لم يخطر لى على بال. حياتى هنا ليست أسعد حالا منها عندما كنت أستجدى الأكف عند ضريح السيدة زينب.فكرت فى العودة إلى مكانها جنب الضريح، و لكن شيئا واحدا منعها، أصبحت تحب ذلك الطفل الصغير ابن سيدتها ولا تطيق البعد عنه!وتذكر أن بضعة أيام مرت على ذلك الحادث، ثم حدث أن خرجت سيدتها مع زوجها لمشاهدة أحد الأفلام السينمائية وأوصت زينب أن تراعى الطفل، فظلت تداعبه حتى نام. حملته إلى فراشه وجلست بجواره. ولما طال بها الانتظار استندت برأسها على حافة الفراش وغلبها النوم فنامت.عادت السيدة مع زوجها. فتح الزوج الباب بالمفتاح واتجهت السيدة إلى غرفة النوم فوجدت زينب نائمة. ركلتها بحذائها فاستيقظت مذعورة وانتصبت واقفة ثم انسحبت إلى مكانها بركن المطبخ وجلست منكمشة ولم تعطها سيدتها تلك الليلة كسرة الخبز التى اعتادت إلقائها لها كل مساء عقابا لها على نومها قبل حضور سيدتها.توالت الأيام، وزينب تقاسى من سيدتها متحملة مالا يمكن أن يحتمله غيرها من ضرب وصفح وإيذاء، إلى ان جاء ذلك اليوم الذى جذبتها فيه السيدة من ذراعها وانقضت عليها تحرق جسدها بحديدة محماة فى النار، فأفلتت من يد سيدتها وانطلقت تعدو مبتعدة عن ذلك البيت.فى الطريق التقت بمبروكة إحدى خدم العمارة. كانت زينب تبكى فسألتها مبروكة عما بها. قصت عليها قصتها فقالت لها مبروكة:- لماذا لا ترسلين خطابا إلى أبيك لينقذك من هؤلاء الناس؟لم تجب زينب عن هذا السؤال واستمرت تبكى. قالت مبروكة:- أنا أيضا سئمت الحياة مع الذين أخدمهم فأرسلت خطابا إلى أبى ليحضر ويأخذنى من هنا.- من الذى كتب لك الخطاب؟- كتبه لى عبد القادر البقال. إنه رجل طيب.أطرقت زينب إلى الأرض برهة ولاذت بالصمت، ثم افترقتا وسارت كل واحدة فى طريقها.لمن أكتب الخطاب؟ إننى لا أب لى ولا أم ولا أقارب، وأنا أخدم هؤلاء الناس ولا أطالبهم بأكثر من كسرة الخبز التى يعطونها لى. لمن أكتب الخطاب؟شعرت بأنها لابد أن تكتب خطابا لأى شخص لينقذها من هذا الشقاء.جميع الخدم الذين عرفْتهم كلما شعروا بظلم مخدوميهم يسرعون إلى عبد القادر البقال ليكتب لهم خطابا إلى ذويهم، وأنا لا أعرف أحداً.فى خضم حيرتها وعذابها خطرت لها فكرة.لماذا لا أكتب خطابا إلى الله؟! إننى اسمع اسمه كثيرا من الناس الذين يأتون للصلاة فى جامع السيدة زينب، وأسمعه فى الأذان ينادى به الرجل بأعلى صوته من فوق المئذنة، وأفهم أنه هو الذى يعطف على المساكين ولا يظلم الناس ولا يحب الظلم. إذا كتبت الخطاب إليه وألقيته فى ذلك الصندوق الذى أرى الناس يلقون بخطاباتهم فيه، فلابد أن يصله الخطاب.وسارت نحو دكان عبد القادر البقال، وعلى باب الدكان وقفت. نظر إليها البقال مستفهما عما تود شراءه، فنظرتْ إليه ثم أطرقت إلى الأرض وأخذت تعبث بأصابعها فى الأرز الموضوع فى مدخل الدكان فنهرها البقال قائلاً:- أبعدى أصابعك القذرة عن الأرز، ماذا تريدين؟جلست القرفصاء ووضعت رأسها بين يديها وأجهشت بالبكاء، نظر إليها البقال متعجبا وأقبل عليها يسألها:- ما بك يا ابنتى؟ لماذا تبكين؟ هل ضربتك سيدتك؟- ضربتنى وحرقت جسمى بالنار.كشفت عن بعض أجزاء جسدها المحترق فأقشعر بدن البقال وقال:- ماذا تريدين يا ابنتى أن أصنع لك؟ - أريد أن أكتب خطابا.- لمن؟ لأبيك؟- ليس لى أب.- هل أكتب لأمك؟- ليس لى أم.- لأحد أقاربك؟لاذت بالصمت. قال البقال:- لمن أكتب الخطاب إذن؟نظرت إليه نظرة حزينة وترددت فى الكلام. فأعاد الرجل سؤاله، فأجابت:- إلى ربنا.فى هذه اللحظة دخل رجل إلى الدكان يريد شراء بعض الأشياء فانشغل معه عبد القادر. لما انتهت عملية البيع عاد عبد القادر يسال زينب:- ماذا قلت؟ لمن أكتب الخطاب؟- إلى ربنا.أخلى عبد القادر ابتسامة كانت تود أن ترتسم على فمه وقال:- وأين ستلقين الخطاب بعد كتابته؟- فى صندوق البريد.وفى مثل لمح البصر ارتمت على قدم البقال تقبلها وترجوه أن يكتب لها خطاب إلى الله تشكو إليه ما أصابها فى الدنيا وترجوه أن يأخذها إلى جواره واندفعت تقول باكية. - لا أعرف سوى ربنا، وهو الذى خلقنى. اكتب لى خطاب إلى ربنا.بدا التأثر واضحا على وجه عبد القادر وكادت تطفر الدموع من عينيه، واعتقد أنه لو رفض طلب هذه البائسة فسيحجب عنها شعاع الأمل الوحيد الذى ومض أمامها فى ظلمة الحياة التى تحياها. فتح درجا وأخرج منه روقا وقلما وقال:- سأكتب لك خطابا إلى ربنا. فماذا تريدين أن تقولى له؟- اكتب له أن يأخذنى عنده، فأنا مسكينة، أليس هو الذى خلقنى؟تظاهر عبد القادر بالكتابة، ثم أخرج مظروفا ووضع الخطاب فيه وأقل المظروف وسلمه إلى زينب. أطبقت يدها على الخطاب بشدة ولم تفكر فى وضع طابع البريد، فهذا شئ لا تعرفه. وفى خطوات حائرة مضطربة ذهبت نحو صندوق البريد، وحاولت إلقاء الخطاب فلم تسطع يدها الوصول إلى فتحة الصندوق. انتظرت مرور أحد المارة وأعطته الخطاب ليلقيه، فأخذه منها وألقاه دون أن ينظر إليه.شعرت لأول مرة فى حياتها بسعادة لم تعرفها من قبل، لقد وجدت من ترسل إليه خطابا كما يفعل غيرها من الخدم عندما يرسلون الخطابات إلى ذويهم.متى يصل الخطاب إلى ربنا؟ ترى هل سيصله اليوم؟ وإلى أين أذهب الآن؟ هل أذهب إلى مكانى جنب جامع السيدة زينب؟ سأجلس هنا تحت صندوق البريد انتظر الرد.جلست القرفصاء وأسندت رأسها على ركبتيها، وبعد فترة رفعت رأسها فإذا بها وجها لوجه أما سيدها. سرت فى جسدها رعشة وانتصبت واقفة وكأنها رأت عفريتا. جذبها الرجل من ذراعها جذبة قوية وأمرها بالرجوع إلى المنزل، وظل قابضا على ذراعها حتى دخلت من باب الشقة.استقبلتها سيدتها بصفعة قوية على وجهها أذهلتها وانهالت عليها ضربا ولكما وسبا. وأقبل المساء، فنام أهل المنزل ونامت زينب فى مكانها بالمطبخ.فى الصباح صحا أهل المنزل، ونادتها سيدتها فلم تسمع إجابة وظنتها غافلتهم وهربت مرة أخرى. فهرعت إلى المطبخ تبحث عنها. وجدتها متكورة فى ركن المطبخ. ركلتها بقدمها ركلة قوية لتوقظها فلم تستيقظ زينب، ولن تستيقظ.

ليست هناك تعليقات: